مقدمة :
لا شك أن البحث في هذة القضية يضطرنا الى الإنطلاق من الظروف المحيطة التي إنطلق فيها الإعلام الإفتراضي في الداخل الفلسطيني . فقد نشأ الإعلام في صورتة الحديثة في الداخل الفلسطيني في فترة كانت فيها الصحافة الحزبية قد فقدت الكثير من ألقها ومن شعبيتها وذلك يرجع الى التغيير العميق على المستوى الفكري و السياسي الذي شهدتة المنطقة بشكل عام في أواخر القرن الماضي وإضمحلال التيار اليساري بشكل خاص وفقدان الاغلبية الشعبية في الداخل الفلسطيني لثقة بقيادات الاحزاب على مختلف توجهاتها .
وبسبب ما سبق من فقدان الثقة وعزوف شريحة كبيرة من المجتمع في الداخل عن ممارسة النشاط السياسي فقد تحولت الصحافة الحزبية الى صحافة نخبوية ضيقة بعد أن كانت في منتصف القرن الماضي صحافة الجماهير وقد تزامن ما سبق ذكرة من تحول وعزوف مع البداية الحقيقية لما يسمى ثورة الإتصالات والتي أسالت لعاب كثيرا من المستثمرين ,منهم اصحاب الصحف الورقية التقليدية مثل ( الصنارة و كل العرب ) حتى أن الصحافة الحزبية حاولت أن تجاري هذة الثورة الرقمية الا أنها لم تستطع أن تعود الى سابق نجاحها و تأثيرها .
اذا تراجع الصحافة الحزبية بسبب التغيرات في المنطقة وفقدان الثقة, وبداية الثورة الإفتراضية كانت هي بداية الصحافة الألكترونية في المجتمع العربي في الداخل والتي في قسم منها كانت نسخا لصحف ورقية كانت موجودة سابقا وكانت نسب نجاح كل منها في التحول متفاوتة فبينما حقق موقع كل العرب الألكتروني نجاحا نسبيا فشلت النسخة الالكترونية لصنارة في المنافسة , بينما حققت بانوراما نجاحا منقطع النظير مقارنة بالعرب الصنارة على مستوى الداخل ( النجاح أقصد بة عدد المتصفحيين ) .
الواقع السياسي في الداخل الفلسطيني وتأثير ذلك على الصحافة الألكترونية :
من المعروف بل صار من المسلم به أن النظام الحاكم ( إسرائيل) ينظر الى العرب في الداخل الفلسطيني على أنهم خطر يتهدد يهودية الدولة بل يذهب المتطرفين الى القول الى ان الوجود العربي خطأ تاريخي يجب تصحيحة .
ولكن تجمع أغلب التيارات الصهيونية من أقصى اليسار الى اقصى اليمين على أن العرب في الداخل مشكلة يجب التعامل معها وتختلف هذة التيارات على طرق التعامل مع هذة المشكلة, وهذة النظرة تعتبر سياسة دولة ثابتة تنطلق الدولة منها لتعامل مع العرب في مختلف المجالات ومنها مجال الإعلام .
يعتبر الإعلام والسيطرة علية وعلى المضمون الذي يقدمة من أهم أساليب الحكم عبر العصور كما ذكرنا في مقدمة المقال عن طرق تعامل الأمراء في العصر الإسلامي في الفترة الأموية والعباسية وما تبعها مع الشعراء والذين كانوا إعلام ذلك العصر .
إذا فالسيطرة على الإعلام أداة من أدوات الحكم تتفاوت كما ذكرنا طرق التعامل مع هذة الاداة بين نظام وأخر, وفي الحالة الإسرائيلية من التعامل مع الصحافة العربية في الداخل إنتهجت السلطة طريقة الإحتواء والسيطرة غير المباشرة في محاولة للحفاظ على صورة إسرائيل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط وإنتهجت إسرائيل طريقة( وضع الخطوط الحمراء – وإنتقاء الأشخاص) في سبيل السيطرة على وسائل الإعلام في الداخل الفلسطيني ويمكن أن نقول أن هذا الأسلوب يستعمل في الكثير من المجالات الأخرى أيضا .
وضع الخطوط الأحمراء وإنتقاء الأشخاص:
إسرائيل كما قلنا لا تستخدم أسلوب القمع المباشر والسيطرة المباشرة مع المجتمع العربي بشكل عام ومع الإعلام بشكل خاص لعدة أسباب ليس هذا المقال المكان الأنسب لذكرها ولكن على سبيل المثال ( الصورة أمام العالم – التجربة مع المجتمع العربي في فترة الحكم العسكري و في هبة أ كتوبر الى ما هنالك من أسباب إستراتيجية معقدة ) .
أما فيما يخص الإعلام الحديث الذي نشأ في الفترة التي أشرنا اليها في البداية فقد تعاملت معة إسرائيل وفقا للمنهج السابق ذكرة , منهج الإحتواء الذي يعتمد على النقطتين المشار اليهما في العنوان ( رسم الخطوط الحمراء – وإنتقاء الأشخاص ) .
رسم الخطوط الحمراء :
في إطار المنهج السابق ذكرة فهذة الطريقة تشكل أحد راحتي الرحى التي تطحن مصداقية الإعلام العربي في الداخل .
الخطوط الحمراء التي رسمتها إسرائيل لكل العملين في الصحافة ولو بشكل غير مباشر :
1- تقديم مضمون يمس بمصداقية الدولة بشكل عميق و بصورتها الديمقراطية .
2- تقديم مادة إعلامية ذات نفس وطني حقيقي ترى في العالم العربي والإسلامي عمقا سياسيا وثقافيا .
3- المساس بالمؤسسات المقدسة في الدولة ( المخابرات والشرطة والجيش ).
4- تقديم مادة إعلامية تساهم في بناء الوعي الجماعي للمجتمع .
إنتقاء الأشخاص
تتم عملية إنتقاء الأشخاص وتسهيل الوصول بهدف السيطرة غير المباشرة على الأقليات وهذة الطريقة تم العمل بها عبر التاريخ وهذا الأسلوب في الإدارة يوفر على السلطة تبعات التدخل المباشر ويتم الإنتقاء بعدة طرق في مجال الإعلام و المجالات الأخرى.
اسلوب الإنتقاء هو عبارة عن تشكيل وإيجاد شخصيات عامة في مختلف المجالات منها مجال الإعلام في سبيل منع وصول قيادات حقيقية تعبر بشكل حقيقي عن طموحات الشعب حيث تقوم هذة القيادات المصنوعة بإدارة الأقلية مما يوفر على السلطة الحاكمة التدخل المباشر .
في بعض الحالات يتم الإنتقاء دون معرفة الشخص المنتقى وذلك لتوفر بعض الصفات المناسبة فيه للقيام بدور إدارة الأقلية مثل : ( المادية والإنتهازية – غير ملتزم بشكل حقيقي بمبادئ وطنية )
يعتبر المستثمرين في مجال الإعلام المحلي اليوم في الداخل من الشخصيات التي تم إنتقائها وذلك بسبب صفات معينة تجمعهم جميعا فبستطاعتك ان تقوم بدراسة بسيطة لشخصيات التي تسيطر على مجال الإعلام المحلي من( مواقع وراديو والتلفزيون القادم) وستجد أن هذة الشخصيات تتسم بصفات مشتركة كثيرة مثل المادية والإنتهازية و عدم وجود رادع أخلاقي ومرجعية فكرية لديهم وعدم وجود أي إلتزام وطني حقيقي يشكل عائقا في طريق التفاهم بينهم وبين السلطة .
أذا فالعلاقة بين المستثمرين في هذا المجال وهم في الحقيقة المسيطرين الحقيقيا على مجال الإعلام في الداخل والدولة هي علاقة تبادلية تكاملية قائمة على المصلحة المشتركة حيث توفر الدولة الحماية والتمويل الى حدا ما بينما يلتزم الطرف الأخر بتقديم مادة إعلامية ملتزمة بالخطوط الحمراء وبالمضامين التي تنبثق عنها .
العلاقة بين الصحفيين والمستثمرين :
إنطلاقا من ما سبق ذكرة فالعلاقة بين الدولة والصحافة العربية اليوم هي علاقة غير مباشرة يشكل فيها المستثمر حلقة الوصل حيث يقوم المستثمر بقمع أي محاولة للخروج عن الخطوط الحمراء السابق ذكرها وذلك إنطلاقا من المصلحة التي تجمعة مع السلطة .
مما يفرز ظواهر باتت غير غريبة لمن يعملون في الصحافة :-
1- تحديد الأجور عند الحد الأدنى لكل العاملين في مجال الصحافة مع أن الصحافة من المهن الأكثر صعوبة وخطورة في العالم .( ذلك أن ا لصحافة أسلوب حياة وموقف ) .
2- إنتقاء صحفيين يمكن التعامل معهم و السيطرة عليهم في إطار تقديم مواد إعلامية ضمن الخطوط الحمراء وذلك يترتب علية إختيار صحفيين لا يملكون إلتزام فكريا حقيقيا .( مثل طلاب مدارس )
3- النزول بمستوى المضمون وتقديم مواد قائمة على الأحداث الفردية مثل حوادث الطرق وغيرها من الأمور المشابهة .
4- تقديم مواد ترفيهية قائمة على إثارة الغرائز البشرية مثل الجنس والصراع والعنف .
5- إبراز شخصيات وكتاب وشعراء وفناني تجمعهم المصلحة المشتركة مع المستثمرين .
6 – إستخدام أشخاص لا يملكون المهارات والثقافة اللازمة للعمل في مجال الصحافة .
7- اللعب على التوازنات السياسية الداخلية .
البديل الحل
أعتقد أن البحث عن حل من خلال هذة المعادلة ,معادلة المستثمرين والدولة غير ممكن إن كنا نبحث عن تقديم إعلام حر ينبثق من الامنا من طموحاتنا من ثقافتنا نريد له أن يساهم في تشكيل الوعي الجماعي وبناء المجتمع .
فكما يقولون على كل من يريد أن ينتصر في أي معركة أن يحدد المكان والزمان , وأنا أعتقد أن معركة الإصلاح يجب على كل الصحفيين الأحرار أن يحددوا زمانها ومكانها وأنا أعتقد أن الصحافة المحلية ليست المكان المناسب لهذة المعركة بسبب ما سبق ذكرة , ولذلك أرى أن الصحافة اليوم وخاصة في الداخل الفلسطيني يجب أن تذهب الى إتجاة صحافة المدونات وصحافة الشبكات الإجتماعية التي لا توجد فيها معادلة السلطة والثروة مستغلين هامش الحرية الكبير الذي تتوفر علية هذة الأماكن اللإفتراضية مستفيدين من التجربة التونسية في إحداث التغيير من خلال معادلة الهاتف النقال و الشبكات الإجتماعية وما تتوفر علية هذة التجربة من مرونة في الحركة وقدرة كبيرة على المناورة على المستوى السياسي و تمكين أصحاب الرؤية السياسية الوطنية الحقيقية والخبراء في مجال الإعلام قيادة هذة الحركة .
وربما يجب علينا كصحفين وأصحاب راي أن نبني أطر سياسية جديدة تلبي طموحات المجتمع ننطلق منها الى التغيير الشامل فالأطر السياسية الموجودة حاليا لا تعبر الا عن طبقة محددوة من المجتمع وإن قلت أن المجتمع يمنح هذة الأطر أصواتة في كل إنتخابات فذلك بسبب عدم وجود البديل .
فالإصلاح على مستوى الإعلام غير ذاتي بحسب وجهة نظري فالمشروع السياسي الشامل هو الخيار الوحيد لإصلاح جميع مناحي الحياة التي نعيش في الداخل الفلسطيني .